فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا الصحف نشرت (10)}
ونشر الصحف حقيقته: فتح طيّات الصحيفة، أو إطلاق التفافها لتقرأ كتابتها، وتقدم في قوله: {أن يؤتَى صُحفاً مُنَشَّرة} في سورة المدثر (52)، وعند قوله: {كتاباً يلقاه منشوراً} في سورة الإسراء (13).
والمراد: صحف الأعمال، وهي إما صحف حقيقية مخالفة للصحف المألوفة، وإما مجازية أطلقت على أشياء فيها إحصاءُ أعمال الناس، وقد تقدم غير مرة.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب: {نشرت} بتخفيف الشين.
وقرأه الجمهور بتشديد الشين للتكثير لكثرة الصحف المنشورة.
والكشط: إزالة الإهاب عن الحيوان الميّت وهو أعم من السلخ لأن السلخ لا يقال إلا في إزالة إهاب البقر والغنم دون إزالة إهاب الإِبل فإنه كشط ولا يقال: سلخ، والظاهر أن المراد إزالة تقع في يوم القيامة لأنها ذكرت في أثناء أحداث يوم القيامة بعد قوله: {وإذا النفوس زوجت وإذا الموؤدة سئلت} وقوله: {وإذا الصحف نشرت}.
فالظاهر أن السماء تبقَى منشقة منفطرة تعرج الملائكة بينهما وبين أرض المحشر حتى يتم الحساب فإذا قضي الحساب أزيلت السماء من مكانها فالسماء مكشوطة والمكشوط عنه هو عالم الخلود، ويكون {كشطت} إستعارة للإِزالة.
ويجوز أن يكون هذا من الأحداث التي جُعلت أشراطاً للساعة وأُخر ذكره لمناسبة ذكر نشر الصحف لأن الصحف تنشرها الملائكة وهم من أهل السماء فيكون هذا الكشط من قبيل الانشقاق في قوله تعالى: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1] والانفطار في قوله تعالى: {إذا السماء انفطرت} إلى قوله: {علمت نفس ما قدمت وأخرت} [الانفطار: 1 5] فيكون الكشط لبعض أجزاء السماء والمكشوط عنه بعض آخر، فيكون من قبيل قوله تعالى: {لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40] ومن قبيل الطي في قوله تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104] لأن ظاهره اتصالُ طيّ السماء بإعادة الخلق، وتصير الأشراط التي تحصل قبل البعث سبعة والأحداث التي تقع بعد البعث خمسة.
والجحيم أصله: النار ذات الطبقات من الوَقود من حَطب ونحوه بعضها فوق بعض، وصار علَماً بالغلبة على جهنم دار العذاب في الآخرة في اصطلاح القرآن، وتسعيرها أو إسعارها: إيقادها، أي هُيّئت لعذاب من حقّ عليهم العذاب.
وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ورويس عن يعقوب: {سعرت} بتشديد العين مبالغة في الإِسعار.
وقرأه الباقون بالتخفيف.
وقوبلت بالجنة دار النعيم واسم الجنة علم بالغلبة على دار النعيم، و{أزلفت} قربت، والزلفى: القرب، أي قربت الجنة من أهلها، أي جعلت بقرب من محشرهم بحيث لا تَعَب عليهم في الوصول إليها وذلك كرامة لهم.
واعلم أن تقديم المسند إليه في الجمل الثِنْتي عشرة المفتتحات بكلمة {إذا} من قوله: {إذا الشمس كورت} إلى هنا، والإِخْبار عنه بالمسند الفعلي مع إمكان أن يقال: إذا كورت الشمس وإذا انكدرت النجوم، وهكذا كما قال: {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} [الرحمن: 37] أن ذلك التقديم لإفادة الاهتمام بتلك الأخبار المجعولة علامات ليوم البعث توسلاً بالاهتمام بأشراطه إلى الاهتمام به وتحقيق وقوعه.
وإن إطالة ذكر تلك الجمل تشويق للجواب الواقع بعدها بقوله: {علمت نفس ما أحضرت}.
وجملة: {علمت نفس ما أحضرت} يتنازع التعلق به كلمات {إذا} المتكررة.
وعن عمر بن الخطاب: أنه قرأ أول هذه السورة فلما بلغ {علمت نفس ما أحضرت} قال: لهذا أجريت القصة. أي هو جواب القسم ومعنى {علمت} أنها تعلم بما أحضرت فتعلمه.
وقوله: {نفس} نكرة في سياق الشرط مُراد بها العموم، أي علمت كل نفس ما أحضرتْ، واستفادة العموم من النكرة في سياق الإثبات تحصل من القرينة الدالة على عدم القصد إلى واحد من الجنس، والقرينة هنا وقوع لفظ نفس في جواب هذه الشروط التي لا يخطر بالبال أن تكون شروطاً لشخص واحد، وقد قال تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء} [آل عمران: 30].
والإحضار: جعل الشيء حاضراً.
ومعنى: {علمتْ نفس ما أحضرت} حصول اليقين بما لم يكن لها به علم من حقائق الأعمال التي كان علمها بها أشتاتاً: بَعْضه معلوم على غير وجهه، وبعضه معلوم صورتُه مجهولةٌ عواقبه، وبعضه مغفول عنه.
فنزّل العلم الذي كان حاصلاً للناس في الحياة الدنيا منزلة عدم العلم، وأثبت العلم لهم في ذلك اليوم علم أعمالهم من خير أو شر فيعلَم ما لم يكن له به علم مما يحقره من أعماله ويتذكر ما كان قد علمه من قبل، وتذكُّر المنسي والمغفول عنه نوع من العلم.
وما أحضرته هو ما أسلفته من الأعمال.
ولما كانت الأعمال تظهر آثارها من ثواب وعقاب يومئذ عبر عن ظهور آثارها بالإحضار لشببه به كما يحضر الزاد للمسافر ففي فعل: {أحضرت} استعارة.
ويطلق على ذلك الإعداد كقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله متى الساعة: «ماذا أعددت لها».
وأسند الإحضار إلى النفوس لأنها الفاعلة للأعمال التي يظهر جزاؤها يومئذ فهذا الإسناد من إسناد فعل الشيء إلى سَبب فعله، فحصل هنا مجازان: مجاز لغوي، ومجاز عقلي، وحقيقتهما في قوله تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء}.
وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها حاصلة عند حصول مجموع الشروط التي ذكرت في الجمل الثنتي عشرة لأن بعض الأحوال التي تضمنتها الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها وهي الأحوال الستة المذكورة أخيراً، وبعض الأحوال حاصل من قبل بقليل وهي الأحوال الستة المذكورة أولاً.
فنزل القريب منزلة المقارن، فلذلك جعل الجميع شروطاً لـ: {إذا}. اهـ.

.قال القرطبي:

الجزء الأول من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كورت} و{إذا السماء انفطرت} و{إذا السماء انشقت}» وفي أسماء يوم القيامة.
الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر غلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت» قال: هذا حديث حسن.
فصل:
قلت: وإنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة لما فيها من انشقاق السماء وانفطارها وتكور شمسها وانكدار نجومها وتناثر كواكبها إلى غير ذلك من أفزاعها وأهوالها، وخروج الخلق من قبورهم إلى سجونهم أو قصورهم بعد نشر صحفهم وقراء كتبهم وأخذها بأيمانهم وشمائلهم أو من وراء ظهورهم في موقفهم على ما يأتي بيانه.
قال الله تعالى: {إذا السماء انشقت} وقال: {إذا السماء انفطرت} وقال: {ويوم تشقق السماء بالغمام} فتراها واهية منفطرة متشققة كقوله تعالى: {وفتحت السماء فكانت أبواباً} ويكون الغمام سترة بين السماء والأرض.
وقيل: إن الباء بمعنى عن أي تشقق عن سحاب أبيض. ويقال: انشقاقها لما يخلص غليه من حر جهنم، وذلك إذا بطلت المياه وبرزت النيران، فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن وتتشقق لما يريد الله من نقض هذا العالم ورفعه، وقد قيل: إن السماء تتلون فتصفر ثم تحمر أو تحمر ثم تصفر كالمهرة تميل في الربيع إلى الصفرة، فإذا اشتد الحر مالت إلى الحمرة ثم إلى الغبرة.
قاله الحليمي.
وقوله تعالى: {إذا الشمس كورت} قال ابن عباس رضي الله عنه تكويرها إدخالها في العرش. وقال: ذهاب ضوئها.
قاله الحسن وقتادة. وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وقال أبو عبيدة: {كورت} مثل تكوير العمامة تلف فتمحى، وقال الربيع بن خيثم {كورت} رمى بها ومنه كورته فتكور أي سقط.
قلت: وأوصل التكوير الجمع مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لاثها وجمهعا فهي تكور ثم يمحى ضوءها ثم يرمى بها والله أعلم.
وقوله تعالى: {وإذا النجوم انكدرت} أي انتثرت قيل تتناثر من أيدي الملائكة لأنهم يموتون. وفي الخبر أنها معلقة بين السماء والأرض بسلاسل بأيدي الملائكة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: {انكدرت} تغيرت وأصل الانكدار الانصباب فتسقط في البحار فتصير معها نيراناً إذا ذهبت المياه.
وقوله: {وإذا الجبال سيرت} هو مثل قوله: {وتسير الجبال} أي تحول عن منزلة الحجارة فتكون كثيباً مهيلاً أي رملاً سائلاً وتكون كالعهن، وتكون هباء منبثاً، وتكون سراباً مثل السراب الذي ليس بشيء، وقيل: إن الجبال بعد اندكاكها أنها تصير كالعهن من حر جهنم كما تصير السماء من حرها كالمهل.
قال الحليمي: وهذا والله أعلم لأن مياه الأرض كانت حاجزة بين السماء والأرض، فإذا ارتفعت وزيد مع ذلك في إحماء جهنم أثر في كل واحد من السماء والأرض ما ذكر.
قوله: {وإذا العشار عطلت} أي عطلها أهلها فلم تحلب من الشغل بأنفسهم و{العشار}: الإبل الحوامل واحدها عشراء وهي التي أتي عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وبعد ما تضع، وإنما خص العشار بالذكر لأنها أعز ما يكون على العرب، فأخبر أنه تعطل يوم القيامة. ومعناه: أنهم إذا قاموا من قبورهم وشاهد بعضهم بعضاً ورأوا الوحوش والدواب محشورة وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم لم يعبئوا بها ولم يهمهم أمرها، ويحتمل تعطل العشار إبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملكهم إياها في الدنيا، وأهل العشار يرونها فلا يجدون إليها سبيلاً.
وقيل: {العشار} السحار يعطل مما يكون فيه وهو الماء فلا يمطر.
وقيل: {العشار} الديار تعطل فلا تسكن.
وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. والقول الأول أشهر وعليه من الناس الأكثر.
وقوله: {وإذا الوحوش حشرت} أي جمعت والحشر الجمع وقد تقدم.
وقوله: {وإذا البحار سجرت} أي أوقدت وصارت ناراً. رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه وقال قتادة: غار ماؤها فذهب، وقال الحسن والضحاك: فاضت.
قال ابن أبي زمنين {سجرت} حقيقته ملئت فيقضي بعضها إلى بعض فتصير شيئاً واحدًّا وهو معنى قول الحسن ويقال: إن الشمس تلف ثم تلقى في البحار فمنها تحمى وتنقلب ناراً.
قال الحليمي: ويحتمل إن كان هذا هكذا أن البحار في قول من فسر التسجير بالامتلاء هو أن النار حينئذ تكون أكثرها لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة، فإذا كورت وألقيت في البحر فصارت ناراً ازدادت امتلاء.
وقوله: {وإذا النفوس زوجت} تفسير الحسن أن تلحق كل شيعة شيعتها اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد من دون الله شيئاً يلحق بعضهم ببعض والمنافقون بالمنافقين والمؤمنون بالمؤمنين.
وقال عكرمة: المعنى تقرن بأجسادها أي ترد إليها.
وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان.
وقيل: يقرن المؤمنون بالحور العين والكافرون بالشياطين.
وقوله: {وإذا الموؤدة سئلت} يعني بنات الجاهلية كانوا يدفنونهن أحياء لخصلتين.
إحدهما: كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به.
الثانية: مخافة الحاجة والإملاق وسؤال الموؤدة على وجه التوبيخ لقاتلها كما يقال للطفل إذا ضرب لم ضربت وما ذنبك؟ وقال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها لأنها قتلت بغير ذنب وبعضهم يقرأ وإذا الموؤدة سئلت تعلق الجارية بأبيها فتقول بأي ذنب قتلتني؟ وقيل: معنى سئلت يسأل عنها كما قال إن العهد كان مسؤولا.
وقوله: {وإذا الصحف نشرت} أي للحساب وسيأتي.
وقوله: {وإذا السماء كشطت} قيل معناه طويت كما قال الله تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} أي كطي الصحيفة على ما فيها فاللام بمعنى على يقال: كشطت السقف أي قلعته فكان المعنى قلعت فطويت. والله أعلم. والكشط والقشط سواء وهو القلع وقيل: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في الصحابة من اسمه سجل.
وقوله: {وإذا الجحيم سعرت} أي أوقدت.
وقوله: {وإذا الجنة أزلفت} أي قربت لأهلها وأدنيت علمت نفس ما أحضرت أي من عملها وهو مثل قوله: {علمت نفس ما قدمت وأخرت} ومثل قوله: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} فهو يوم الانشقاق ويوم الانفطار ويوم التكوير ويوم الانكدار ويوم الانتثار ويوم التسيير قال الله تعالى: {وتسير الجبال سيراً} و{إذا الجبال سيرت} ويوم التعطيل ويوم التسجير ويوم التفجير ويوم الكشط والطي ويوم المد لقوله تعالى: {وإذا الأرض مدت} إلى غير ذلك من أسماء القيامة وهي الساعة الموعود أمرها ولعظمها أكثر الناس السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله عز وجل على رسوله {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتةً} وكل ما عظم شأنه تعددت صفاته وكثرت أسماؤه وهذا جميع كلام العرب ألا ترى أن السيف لما عظم عندهم موضعه وتأكد نفعه لديهم وموقعه جمعوا له خمسمائة اسم. وله نظائر. فالقيامة لما عظم أمرها، وكثرت أهوالها، سماها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة، ووصفها بأوصاف كثيرة. منها ما ذكرناه، مما وقع في هذه السور الثلاث.
وقيل: إن الله تعالى يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها فتوقف بين يدي الله تعالى ويوم الجمعة فيها زاهراء مضيئة يعرفها الخلائق فيوم القيامة يوم يتضمن الأيام كلها فسمى بكل حال يوماً فقيل: {يوم ينفخ في الصور} ثم قيل: {يوم يكون الناس كالفراش المبثوث} ثم قيل: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} فهذه حالة أخرى. ثم قيل: يوم تعرضون ثم قيل: {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً}. فهذه أحوال فقد يجري يوم القيامة بطوله على هذه الأحوال كل حال منها كاليوم المتجدد ولذلك كررت في قوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين}. لأن ذلك اليوم ومابعده يوم، واليوم العظيم متضمن لهذه الأيام فهو لله يوم وللخلائق أيام فقد عرفت أيامهم في يومه وقد بطل الليل والنهار. قاله الترمذي الحكيم.
ومما قيل في معنى ما ذكرنا من النظم قول بعضهم:
مثل لنفسك أيها المغرور ** يوم القامة والسماء تمور

إذ كورت شمس النهار وأدنيت ** حتى على رأس العباد تسير

وإذا النجوم تساقطت وتناثرت ** وتبدلت بعد الضياء كدور

وإذا البحار تفجرت من خوفها ** ورأيتها مثل الجحيم تفور

وإذا الجبال تقلعت بأصولها ** فرأيتها مثل السحاب تسير

وإذا العشار تعطلت وتخربت ** خلت الديار فما بها معمور

وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت ** وتقول للأملاك أين نسير

وإذا تقاة المسلمين تزوجت ** من حور عين زانهن شعور

وإذا الموؤدة سئلت عن شأنها ** وبأي ذنب قتلها ميسور

وإذا الجليل طوى السما بيمينه ** طي السجل كتابه المنشور

وإذا الصحائف عند ذاك تساقطت ** تبدى لنا يوم القصاص أمور

وإذا الصحائف نشرت فتطايرت ** وتهتكت للمؤمنين ستور

وإذا السماء تكشطت عن أهلها ** ورأيت أفلاك السماء تدور

وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ** فلها على أهل الذنوب زفير

وإذا لجنان تزخرفت وتطيبت ** لفتى على طول البلاء صبور

وإذا الجنين بأمه متعلق ** يخشى القصاص وقلبه مذعور

هذا بلا ذنب يخاف جناية ** كيف المصر على الذنوب دهور

ومنها الساعة قال الله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة} وقال: {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون}. {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} وقال: {ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} وهو في القرآن كثير، والساعة كلمة يعبر بها في العربية عن جزء الزمان غير محدود وفي العرف على جزء من أربعة وعشرين جزءاً من يوم وليلة والذين هما أصل الأزمنة، وتقول العرب أفعل كذا الساعة، وأنا الساعة في أمر كذا تريد الوقت الذي أنت فيه، والذي يليه تقريباً له وحقيقة الإطلاق فيها أن الساعة بالألف واللام عبارة في الحقيقة عن الوقت الذي أنت فيه وهو المسمى بالآن وسميت به القيامة إما لقربها فإن كل آت قريب، وإما أن تكون سميت بها تنبيهاً على ما فيها من الكائنات العظام التي تصهر الجلود وتكسر العظام وقيل: إنما سميت بالساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة، وقيل: إنما سميت بالساعة لأن الله تعالى يأمر السماء أن تمطر بماء الحيوان حتى تنبت الأجساد في مدافنها ومواضعها حيث كانت من بحر أو بر وتستقل وتتحرك بحياتها بماء الحيوان، وليست فيها أرواح ثم تدعى الأرواح، فأرواح المؤمنين تتوقد نوراً، وأرواح الكافرين تتوهج ظلمة، فإذا دعا الأرواح ألقاها في الصور ثم يأمر إسرافيل أن ينفخ في الصور فإذا نفخ فيه خرجت من الصور ثم أمرت أن تلحق الأجساد فتبعث إلى الأجساد في أسرع من اللمحة، وأنما سميت الساعة لسعي الأرواح إلى الأجساد في تلك السرعة فهي سائغ وجمعها ساعة كقولك، بائع وباعة وضائع وضاعة وكائل وكالة، فوصف أن سائر أموره في السرعة كلمح البصر وأمر السائق أقرب من لمح البصر.
قاله الترمذي الحكيم.
وذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده عن وهب بن منبه قال: إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء وقطرت العظاة دماً ومنها القيامة قال الله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} وهي في العربية مصدر قام يقوم ودخلها التأنيث للمبالغة على عادة العرب، واختلف في تسميتها بذلك على أربعة أقوال.
الأول: لوجود هذه الأمور فيها.
الثاني: لقيام الخلق من قبورهم إليها.
قال الله تعالى يوم يخرجون من الأجداث سراعاً.
الثالث: لقيام الناس لرب العالمين كما روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: «{يوم يقوم الناس لرب العالمين} قال يوم يقوم أحدكم في رشحه إلى نصف أذنيه».
قال ابن عمر رضي الله عنهما يقومون مائة سنة. ويروى عن كعب يقومون ثلاثمائة سنة.
الرابع: لقيام الروح والملائكة صفاً.
قال الله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفاً.
قال علماؤنا: واعلم أن كل ميت مات فقد قيامته، ولكنها قيامة صغرى وكبرى، فالصغرى هي ما يقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه وفراق أهله وانقطاع سعيه وحصوله على عمله. إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، والقيامة الكبرى هي التي تعم الناس وتأخذهم أخذة واحدة، والدليل على أن كل ميت يموت فقد قامت قيامته قول النبي صلى الله عليه وسلم لقوم من الأعراب وقد سألوه متى القيامة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: «إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم» أخرجه مسلم وغيره، وقال الشاعر:
خرجت من الدنيا وقامت قيامتي ** غداة أقيل الحاملون جنازتي

وعجل أهلي حفر قبري وصبروا ** خروجي وتعجيلي إليه كرامتي

كأنهم لم يعرفوا قط سيرتي ** غداة أتى يومي على وساعتي

ومنها: يوم النفخة.
قال الله تعالى: {يوم ينفخ في الصور} وقد مضى القول فيه.
ومنها: يوم الزلزلة ويوم الرجفة.
قال الله تعالى: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} وقد تقدم.
ومنها: يوم الناقور كقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور} وقد تقدم القول فيه والحمد لله.
ومنها: القارعة سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها يقال: قد أصابتهم قوارع الدهر أي أهواله وشدائده، قالت الخنساء:
تعرفني الدهر نهشاً وحزاً ** وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا

أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه وصغرياتها.
ومنها: يوم البعث وحقيقته إثارة الشيء عن خفاء وتحريكة عن سكون، قال عنترة:
وعصابة شم الأنوف بعثهم ليلاً ** وقد مال الكرا بطلاها

وقال امرؤ القيس:
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة ** فقاموا جميعاً بين غات ونسوان

وقد تقدم القول فيه وفي صفته والحمد لله.
ومنها: يوم النشور وهو عبارة عن الإحياء. يقال: قد أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم الله فحييوا ومنه قوله تعالى: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} أي نحييها، وقد يكون معناه التفريق من ذلك قولك أمرهم نشر.
ومنها: يوم الخروج قال الله تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً} فأوله الخروج من القبور وآخره خروج المؤمنين من النار ثم لا خروج ولا دخول على ما يأتي.
ومنها: يوم الحشر وهو عبارة عن الجمع، وقد يكون مع الفعل إكراه قال الله تعالى: {وأرسل في المدائن حاشرين} أي من يسوق السحرة كرهاً وقد مضى القول في الحشر مستوفي والحمد لله.
ومنها: يوم العرض قال الله تعالى: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} وقال: {وعرضوا على ربك صفاً} وحقيقتة إدراك الشيء بإحدى الحواس ليعلم حاله وغايته السمع والبصر فلا يزال الخلق قياماً في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما شاء الله أن يقوموا حتى يلهموا أو يهتموا. فيقولون: قد كنا نستشفع في الدنيا فهلم فلنسال الشفاعة إلى ربنا فيقولون: أئتوا آدم الحديث وسيأتي.
قال ابن العربي: وفي كيفية العرض أحاديث كثيرة المعول منها على تسعة أحاديث في تسعة أوقات:
الأول: الحديث المشهور الصحيح رواه أبي هريرة وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما واللفظ له قال: «إن ناساً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب، وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس فها سحاب، قالوا: لا يا رسول الله.
قال: ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغير أهل الكتاب، فيدعى اليهود فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيز بن الله. فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تبغون؟ قالوا عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً قيتساقطون في النار، ثم تدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله. فيقال لهم: كذبتم ما تخذ الله من صاحبة ولا ولد. فيقال لهم: ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها.
قال: فماذا تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً. حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها، فيقولون: نعم. فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم»
وذكر الحديث وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى.
الثاني: صح حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من نوقش الحساب عذب، قلت يا رسول الله أليس الله يقول فسوف يحاسب حساباً يسيراً قال: ليس ذلك الحساب ذلك العرض وسيأتي.
الثالث: روى الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات وسيأتي».
الرابع: روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج» الحديث، وسيأتي.
الخامس: ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد الخدري واللفظ له، «يؤتى بعبد يوم القيامة فيقال له ألم أجعل لك سمعاً وبصراً ومالاً وولداً وتركتك ترأس وترتع فكنت تظن أنك ملاقى يومكهذا. فيقول: لا. فيقال له: اليوم أنساك كما نسيتني» وهذا حديث صحيح.
قلت: خرجه مسلم والترمذي مطولاً.
السادس: ثبت من طرق صحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيضع عليه كفنه فيقول له عبدي تذكر يوم كذا وكذا حين فعلت كذا وكذا فلا يزال يقرره حتى يرى أنه هلك. ثم يقول له: عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».
السابع: وفي الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً وآخر أهل النار خروجاً من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها» وذكر الحديث.
الثامن: وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله فيلتفت أحدهم فيقول: أي رب إذا أخرجتني منها فلا تعدني فيها فينجيه الله منها».
وروى مسلم «يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول لهم: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك» وذكر حديث الشفاعة قال الله تعالى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار} وذلك قوله في الحديث المتقدم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا مما أغفله الأئمة في التفسير.
التاسع: العرض على الله ولا أعلمه في الحديث إلا قوله في النص المتقدم «حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين»، وذكر الحديث.
قلت: إذا تتبعت الأحاديث في هذا الباب على هذا السياق كان الحسن والصحيح منها أكثر من تسعة.
وقد خرج عن أبي بردة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع» الحديث وسيأتي.
وقوله في الحديث الآخر «إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله».
وخرج مسلم عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان» الحديث وسيأتي.
وخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يارب» الحديث وسيأتي.
ويتضمن من غير رواية البخاري عرض اللوح المحفوظ ثم إسرافيل ثم جبرائيل ثم الأنبياء نبياً نبياً صلوات الله عليهم أجمعين، وسيأتي.
وخرج الترمذي وابن ماجه حديث الرجل الذي ينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً وسيأتي.
وهذا كله من باب العرض على الله. وإذا تتبعت الأحاديث كانت أكثر من هذا في مواطن مختلفة وأشخاص متباينة والله أعلم، وفي بعض الخبر أنه يتمنى رجال أن يبعث بهم إلى النار، ولا تعرض قبائحهم على الله تعالى، ولا يكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق.
قلت: وأما ما وقع ذكره في الحديث من كشف الساق وذكر الصورة فيأتي إيضاحه ذلك وكشفه إن شاء الله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وأما ما جاء من طول هذا اليوم ووقوف الخلائق فيه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فقلت: ما أطول هذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا» ذكره قاسم بن أصبغ وقيل: غير هذا وسيأتي.
ومنها: يوم الجمع وحقيقته في العربية ضم واحد إلى واحد، فيكون شفعاً أو زوجاً إلى زوج فيكون جمعاً.
قال الله تعالى: {يوم يجمعكم ليوم الجمع} وقال: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} وهو في القرآن كثير.
ومنها: يوم التفرق قال الله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون} وهو معنى قوله تعالى: {فريق في الجنة وفريق في السعير}
ومنها: يوم الصدع والصدر أيضاً قال الله تعالى: {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً} وقال: {يومئذ يصدعون} ومعناهما معنى الإسم الذي قبله.
ومنها: يوم البعثرة ومعناه تتبع الشيء المختلط مع غيره حتى يخلص منه فيخلص الله تعالى الأجسام من التراب والكافرين من المؤمنين والمنافقين، ثم يخلص المؤمنين من المنافقين كما في الحديث الصحيح: «إن الله تعالى يجمع الأوليين والآخرين في صعيد واحد» خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومنها: ما روي «أنه يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم» وهو صحيح أيضاً وسيأتي.
وقال صلى الله عليه وسلم: «يؤخذ برجال ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
ومنها: يوم الفزع وحقيقته ضعف النفس عن حمل المعاني الطارئة عليها خلاف العادة، فإن استمر كان جبناً وعند ذلك تتشوق النفس إلى ما يقويها فلأجل ذلك قالوا: فزعت من كذا أي ضعفت عن حمله عن طريانه على خلاف العادة، وفزعت إلى كذا أي تشوقت نفسي عند ذلك إلى ما يقويها على ما نزل بها والآخرة كلها خلاف العادة وهي فزع كلها وفي التنزيل لا يحزنهم الفزع الأكبر، وقد اختلف فيه فقيل هو قوله: {لا بشرى يومئذ للمجرمين}. وقيل، إذا طبقت النار على أهلها وذبح الموت بين الجنة والنار.
وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار وعنه أن الفزع الأكبر النفخة الآخرة وتتلقاهم الملائكة بالبشارة حتى يخرجوا من قبورهم.
ومنها: يوم التناد بتخفيف الدال من النداء وتشديدها من ند إذا ذهب وهو قال تعالى: {يوم تولون مدبرين} وهو الذهاب في غير قصد. وروي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات والأرض» الحديث، وقد تقدم التي يقول الله: {ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق} فيسير الله الجبال ويرج الأرض بأهلها رجاً وهي التي يقول الله: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة} فيميد الناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب الولدان وتولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً وهو الذي يقول الله تعالى: {يوم التناد يوم تولون مدبرين} قال ابن العربي: وقد رويت في ذلك آثار كثيرة هذا أمثلها فدعوها، فالمعنى الواحد يكفينا منها ومن هولها ومن تحقيق المعنى لها.
قلت: قد بينا أقوال العلماء في ذلك عند ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في باب أين تكون الناس فتأمله هناك.
ومنها: يوم الدعاء وهو النداء أيضاً.
والنداء على ثمانية وجوه فيما ذكر ابن العربي:
الأول: نداء أهل الجنة أهل النار بالتقريع.
الثاني: نداء أهل النار لأهل الجنة بالاستغاثة كما أخبر الله عنهم.
الثالث: يدعى كل أناس بإمامهم وهو قوله لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قال المؤلف: ويقال بكتابهم وقيل: نبيهم.
قال سري السقطي: تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها فيقال يا أمة موسى يا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين لله فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحاً.
الرابع: نداء الملك ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن فلان ابن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً وسيأتي.
الخامس: النداء عند ذبح الموت يا أهل الجنة خلود فلا موت، وياأهل النار خلود فلا موت.
السادس: نداء أهل النار يا حسرتنا وياويلنا.
السابع: قول الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}
الثامن: نداء الله تعالى أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيت؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًّا من خلقك. فيقول: أعطيتكم أفضل من ذلك رضائي.
الجزء الثاني من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كورت} و{إذا السماء انفطرت} و{إذا السماء انشقت} وفي أسماء يوم القيامة».
قال المؤلف رضي الله عنه: ونداء تاسع ذكره أبو نعيم عن مروان بن محمد قال: قال أبو حازم الأعرج: يخاطب نفسه يا أعرج ينادي يوم القيامة يا أهل خطيئة كذا وكذا وكذا فتقوم معهم، ثم ينادي يا أهل خطيئة أخرى فتقوم معهم فأراك يا أعرج تريد أن تقوم مع أهل كل خطيئة وفي التنزيل {يوم يناديهم فيقول أين شركائي} الآية التي في القصص وحم السجدة {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} وبالنداء في الأخبار كثير يأتي بيانها وذكرها في باب من يدخل الجنة بغير حساب.
ومنها: يوم الواقعة. وأصل وقع في كلام العرب كان ووجد، وجاءت الشريعة في تأكيد ذلك بثبوت ما وجد قال الله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم} والمراد بالقول هنا إخبار الباري عن الساعة وأنها قريبة، ومن أعظم علاماتها الدابة، وسيأتي ذكرها وما للعلماء فيها من الأشراط إن شاء الله تعالى وقوله: {كاذبة} مصدر كالباقية والعاقبة أي ليس لوقعتها مقالة كاذبة.
ومنها: الخافضة الرافعة أي ترفع قوماً في الجنة وتخفض أخرى في النار، والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعز والإهانة، ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يمكن منه الفعل يقولون ليل قائم ونهار صائم وفي التنزيل بل مكر الليل والنهار والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله تعالى وحده، فرفع أولياءه في أعلى الدرجات وجعل أعداءه في أسفل الدركات قال الله تعالى: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} وقال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: «نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس».
قال ابن العربي وهذا حديث فيه تخليط في كتاب مسلم لم يتقنه رواية. ومعناه: أن جميع الخلق على بسيط من الأرض سواء إلا محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته فإنهم يرفعون جميعهم على شبه من الكوم ويخفض الناس عنهم، وفي رواية: «أكون أنا وأمتي يوم القيامة على تل فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم يؤذن لي فذلك المقام المحمود».
قلت: وهذا الرفع في المكان بحسب الزيادة في المكانة.
قال ابن العربي: وهي أنواع فرفع محمداً صلى الله عليه وسلم بالشفاعة في أول الخلق وبأنه أول من يدخل الجنة ويقرع بابها، ورفع العادلين بالحديث الصحيح «المقسطون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، ورفع القراء إلى حيث انتهت قراءتهم. يقال: اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها»، وسيأتي ورفع الشهداء فقال في الحديث الصحيح «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله» الحديث وسيأتي، ورفع كافل اليتيم فقال صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار مالك بالسبابة والوسطى» يريد في الجوار وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغائر في أفق السماء وأن أبا بكر وعمر منهم وأنعما»، ورفع عائشة على فاطمة رضي الله عنهما، فإن عائشة مع النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة مع على رضي الله عنهما.
ومنها: يوم الحساب ومعناه أن الباري سبحانه يعدد على الخلق أعمالهم من إحسان وإساءة يعدد عليهم نعمه، ثم يقابل البعض بالبعض فما يشف منها على الآخر حكم للمشفوق بحكمه الذي عينه للخير بالخير وللشر بالشر.
وجاء عن النبي أنه قال: «ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان» فقيل إن الله يحاسب المكلفين بنفسه ويخاطبهم معاً ولا يحاسبهم واحدًّا بعد واحد والمحاسبة حكم. فلذلك تضاف إليه كما يضاف الحكم إليه قال الله تعالى: {ألا له الحكم} وقال: {وهو خير الحاكمين}.
وفي الخبر: أنه يوقف شيخ للحساب فيقول الله له: يا شيخ ما أنصفت غذوتك بالنعم صغيراً فلما كبرتك عصيتني أما إني لا أكون لك كما كنت لنفسك اذهب فقد غفرت لك ما كان قبل، وإنه ليؤتى بالشاب كثير الذنوب فإذا وقف تضعضعت أركانه واصطكت ركبتاه فيقول الرب جل جلاله: أما استحييتني أما راقبتني أما خشيت نقمتي أما علمت أني مطلع عليك خذوه إلى أمه الهاوية، وقيل: إن الملائكة يحاسبون بأمر الله كما أن الحكام يحكمون بأمر الله تعالى. وقد قال الله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} إلى قوله: {ولا يكلمهم الله} وإن من لم يكن بهذه الصفة فإن الله تعالى يكلمه فيكلم المؤمنين ويحاسبهم حساباً يسيراً من غير ترجمان إكراماً لهم، كما أكرم موسى عليه السلام في الدنيا بالكليم، ولا يكلم الكفار فتحاسبهم الملائكة ويميزهم بذلك عن أهل الكرامة فتتسع قدرته لمحاسبة الخلق كلهم معاً كما تتسع قدرته لإحداث خلائق كثيرة معاً.
قال الله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} أي إلا كخلق نفس واحدة.
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسئل عن محاسبة الخلق فقال: كما يرزقهم في غداة واحدة كذلك يحاسبهم في ساعة واحدة.
وفي صحيح مسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة؟ قالوا: لا.
قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر وليس في سحابة قالةا: لا.
قال: فو الذي نفس محمد بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما.
قال: فيلقى العبد فيقول: أيأفل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع؟ فيقول: بلى فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وتصدقت وصمت ويثني بخير ما استطاع قال: فيقول ها هن إذاً ثم يقول الآن نبعث شاهداً عليك فيقول في نفسه من ذا الذي يشهد على فيختم على فيه. ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظام بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه، وقد قال الله تعالى اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً أي حاسباً فعيلاً بمعنى فاعل، وإذا نظر فيها ورأى أنه قد هلك فإن أدركته سابقة حسنة وضعت له لا إله إلا الله في كفة فرجحت له السموات والأرض»
. وفي رواية «فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» وسيأتي وقال: «من نوقش الحساب عذب».
ومنها: يوم السؤال والباري سبحانه وتعالى يسأل الخلق في الدنيا والآخرة تقريراً لإقامة الحجة وإظهاراً للحكمة.
قال الله تعالى: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} وقال: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرةً البحر} وقال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} وهو في القرآن كثير وقال: {ليسأل الصادقين عن صدقهم} وقال: {وإذا الموؤدة سئلت} وقال: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} قيل: عن لا إله إلا الله. وقال: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال عليه السلام «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع..». الحديث وسيأتي.
وروى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
ومنها: يوم الشهادة ويوم يقوم الأشهاد.
والشهادة على أربعة أنواع:
شهادة محمد وأمته تحقيقاً لشهادة الرسل على قومها.
الثاني: شهادة الأرض والأيام والليالي بما عمل فيها وعليها.
الثالث: شهادة الجوارح قال الله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم} وقال: {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا}
وذلك بين أيضاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الرابع: حديث أنس رضي الله عنه وفيه «ويختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله»، وسيأتي بيان هذا الباب كله إن شاء الله تعالى.
ومناه: يوم الجدال قال الله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} أي تخاصم وتحاج عن نفسها. وجاء في الخبر: أن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي من شدة أهوال يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يسأل في أمته. على ما يأتي.
وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار يا كعب: خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا فقال كعب: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبياً لأتت عليك تارات ولا يهمك إلا نفسك وإن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي منتخب إلا وقع جاثيا علي ركبتيه، حتى إن إبراهيم الخليل ليدلى بالخلة فيقول رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي.
قال يا كعب: اين نجد ذلك في كتاب الله تعالى؟ قال: قوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون}.
وقال ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية: ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد، فتقول الروح: رب الروح منك أنت خلقته لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ولا أذن أسمع بها ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب ونجني. فيقول الجسد: رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا قدم أسعى بها ولا بصر أبصر به ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشعاع الشمس فيه نطق لساني وبه أبصر عيني وبه مشت رجلي وبه سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب ونجني قال: فيضرب الله لهما مثلاً أعمى ومقعد أدخلا بستاناً فيه ثمار فالأعمى لا يبصر والمقعد لا ينالها، فنادى المقعد للأعمى ائتني فاحملني آكل وأطعمك فدنا منه فحمله فأصابا من الثمرة فعلى من يكون العذاب.
قالا: عليهما، قال: عليكم جميعاً العذاب.
قال المؤلف رضي الله عنه وأرضاه: ومن هذا الباب قول الأمم: كيف يشهد علينا من لم يدركنا إلى غير ذلك مما في معناه حسب ما يأتي.
ومنها: يوم القصاص. وفيه أحاديث كثيرة يأتي ذكرها في باب إن شاء الله تعالى.
ومنها: يوم الحاقة. وسميت بذلك لأن الأمور تحق فيها.
قاله الطبري كأنه جعلها من باب: ليلي نائم كما تقدم.
وقيل: سميت حاقة لأنها كانت من غير شك.
وقيل: سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام النار.
ومنها يوم الطامة. معناها الغالبة من قولك طم الشيء إذا علا وغلب، ولما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء.
قال الحسن: الطامة النفخة الثانية، وقيل: حين يساق أهل النار إلى النار.
ومنها: يوم الصاخة قال عكروة: الصاخة: النفخة الأولى والطامة: النفخة الثانية قال الطبري أحسبه من صخ فلان فلاناً إذا أصمه.
قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم وإنها المسمعة، وهذا من بديع الفصاحة حتى لقد قال بعض أحداث الأسنان حديثي الأزمان:
أصم بك الناعي وإن كنت أسمعا

وقال آخر:
أصمني شرهم أيام فرقتهم ** فهل سمعتم بشر يورث الصمما

ولعمرو الله إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة، وبهذا كله كان يوماً عظيماً كما قال الله تعالى في وصفه بالعظيم. وكل شيء كبر في أجزائه فهو عظيم. كذلك ما كبر في معانيه. وبهذا المعنى كان الباري عظيماً، لسعة قدرته وعلمه وكثرة ملكه الذي لا يحصى، ولما كان أمر الآخرة لا ينحصر كان عظيماً بالإضافة إلى الدنيا ولما كان محدثاً له أول صار حقيراً بالإصافة إلى العظيم الذي لا يحد.
ومنها: يوم الوعيد وهو أن الباري سبحانه أمر ونهى ووعد وأوعد فهو أيضاً يوم الوعد والوعد للنعيم والوعيد للعذاب الأليم، وحقيقة الوعيد هو الخبر عن العقوبة عند المخالفة، والوعد الخبر عنى المثوبة عند الموافقة، وقد ضل في هذه المسألة المبتدعة وقالوا: إن من أذنب ذنباً واحدًّا فهو مخلد في النار تخليد الكفار أخذاً بظاهر هذا اللفظ في آي فلم يفهموا العربية ولا كتاب الله وأبطلوا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الرد عليهم في أبواب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ومنها: يوم الدين. وهو في لسان العرب الجزاء قال الشاعر:
حصادك يوماً ما زرعت وإنما ** يدان الفتى فيه كما هو دائن

وقال آخر:
واعلم يقيناً أن ملكك زائل ** واعلم بأنك كما تدين تدان

ومنها: يوم الجزاء.
قال الله تعالى: {اليوم تجزون ما كنتم تعملون} وقال: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} وهو أيضاً يوم الوفاء.
قال الله تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} أي حسابهم وجزاؤهم والجنة جزاء الحسنات والنار جزاء السيئات.
قال الله تعالى في المعنيين {جزاء بما كانوا يكسبون} و{جزاء بما كانوا يعملون} وقال في جهة الوعيد {كذلك نجزي كل كفور}.
ومنها: يوم الندامة. وذلك أن المحسن إذا رأى جزاء إحسانه والكافر جزاء كفره ندم المحس أن لا يكون مستكثراً، وندم المسيء أن لا يكون استعتب، فإذا صار الكافر إلى عذاب لا نفاد له تحسر، فلذلك سمي يوم الحسرة قال الله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} وذلك عند ذبح الموت على ما يأتي وهم في غفلة يعني الآن عن ذلك اليوم.
والحسرة: عبارة عن استشكاف المكروه بعد خفائه.
ومنها: يوم التبديل.
قال الله تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} وقد تقدم القول في ذلك مستوفى.
ومنها: يوم التلاق.
قال الله تعالى: {لينذر يوم التلاق} وهو عبارة عن اتصال المعنيين بسبب من أسباب العلم والجسمين. وهو أنواع أربعة:
الأول: لقاء الأموات لمن سبقهم إلى الممات فيسألونهم عن أهل الدنيا كما تقدم.
والثاني: عمله وقد تقدم.
الثالث: لقاء أهل السموات لأهل الأرض في المحشر وقد تقدم.
الرابع: لقاء الخلق للباري سبحانه وتعالى وذلك يكون في عرصات القيامة وفي الجنة على ما يأتي.
ومنها: يوم الآزفة. تقول العرب أزف كذا أي قرب قال الشاعر:
أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما نزل برحالنا وكأن قد

وهي قريبة جدًّا وكل آت قريب وإن بعد مداه قال الله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} وما يستبعد الرجل من الساعة ومدته ساعة.
ومنها: يوم المآب. ومعناه الرجوع إلى الله تعالى ولم يذهب عن الله شيء فيرجع إليه. وإنما حقيقته أن العبد يخلق الله فيه ما شاء من أفعاله لما خلق فيه علماً وخلق فيه إيثاراً واختياراً ظن الناس أنه شيء أو أن له فعلاً، فإذا أماته وسلب ما كان أعطاه أذعن وآب في وقت لا ينفعه الإياب، ولم يزل عن الله تعالى في حال فهو الأواب.
ومنها: يوم المصير. وهو يوم المآب بعينه قال الله تعالى: {ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير} فالخلق سائرون إلى أمر الله تعالى. وآخر ذلك دار القرار وهي الجنة أو النار قال الله تعالى في حق الكافرين: {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار}
ومنها: يوم القضاء. وهو أيضاً يوم الحكم والفصل، وسيأتي أن أول ما يقضى فيه الدماء وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها الحديث وفيه كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد» والفصل هو الفرق والقطع فيفصل يومئذ بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن.
قال الله تعالى: {يوم القيامة يفصل بينكم} الآية وهو يوم الحكم لأن إنفاذ الحكم هو إنفاذ العلم قال الله تعالى: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} الآية.
وقال: {ذلكم حكم الله يحكم بينكم}
ومنها: يوم الوزن.
قال الله تعالى: {والوزن يومئذ الحق} الآية. وسيأتي الكلام في الميزان ووزن الأعمال فيه في أبواب إن شاء الله.
ومنها: يوم عقيم. وهو في اللغة عبارة عن من لا يكون له ولد. ولما كان الولد يكون بين الأبوين وكان الأيام تتوالى قبل وبعد جعل الاتباع بالتعدية فيها كهيئة الولادة. ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم.
ومنها: يوم عسير. وهذا في حق الكافرين خاصة. والعسر ضد اليسر فهو عسير على الكافرين، لأنهم لا يرون فيه أملاً ولا يقطعون فيه رجاء حتى إذا خرج المؤمنون من النار طلبوا مثل ذلك، فيقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون فحينئذ يكون المنع الصريح على ما يأتي بيانه في أبواب النار إن شاء الله تعالى، وأما المؤمنون فتنحل عقدهم بيسر إلى يسر، فينحل طول الوقوف إلى تعجيل الحساب وتثقيل الموازين وجواز الصراط والضلال بالأعمال، ولا تنحل للكافرين من هذه العقد عقدة واحدة إلا إلى أشد منها حتى إلى جهنم دار القرار.
ومنها: يوم مشهود. سمي بذلك لأنه يشهده كل مخلوق وقيل: سمي بذلك لأن الشهداء يشهدون فيه على ما يأتي والله أعلم.
ومنها: يوم التغابن. سمي بذلك لأن الناس يتغابنون في المنازل عند الله: فريق في الجنة وفريق في السعير. وحقيقته في لسان العرب: ظهور الفضل في المعاملة لأحد المتعاملين والدنيا والآخرة دار العملين وحالين وكل واحد منهما لله ولا يعطى أحدهما إلا لمن ترك نصيبه من الأخرى: قال الله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد} وقال: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} ومن أراد الآخرة فسعيه مشكور، وحظه في الآخرة موفور.
ومنها: يوم عبوس قمطرير، والقمطرير: الشديد وقيل الطويل. وأما العبوس فهو الذي يعبس فيه سمي باسم ما يكون فيه، كما يقال ليل قائم ونهار صائم وكلوح الوجه، وعبوسه هو قبض ما بين العينين وتغير السحنة عن عادتها الطلقة. يقال: يوم طلق إذا كانت شمسه نيرة فاترة وإذا كانت شمسه مدجية قد غطاها السحاب. قيل: يوم عبوس وأول العبوس والكلوح عند الخروج من القبور ورؤية الأعمال في الصور القبيحة كما تقدم، وآخر ذلك كلوح النار وهو الكلوح الأعظم يشوي الوجوه ويسقط الجلود على ما يأتي، ومع العبوس تشخص الأبصار وهي ثبوتها راكدة على منظر واحد لهول لا ينتقل منه إلى غيره كما قال سبحانه: {ليوم تشخص فيه الأبصار}.
ومنها: يوم تبلى السرائر. ومعناه إخراج المخبآت بالاختبار بوزن الأعمال في الصحف ويكشف الساق عند السجود على ما يأتي.
ومنها: يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً. وهو مثل قوله: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} وقال: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} فكل نفس بما كسبت رهينة لا يغنى أحد عن أحد شيئاً، بل ينفصل كل واحد عن أخيه وأبيه، ولذلك كان يوم الفصل ويوم الفرار.
قال الله تعالى: {إن يوم الفصل كان ميقاتاً} وقال تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} أما إنه يجزي ويقضي ويعطي ويغني بغير اختياره من حسناته ما عليه من الحقوق على ما يأتي بيانه في أحاديث المفلس إن شاء الله تعالى.
ومنها: يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً. والدع الدفع أي يدفعون إلى جهنم ويسحيون فيها وجوههم كما قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم}.
ومنها: يوم التقلب وهو التحول.
قال الله تعالى: {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} أي قلوب الكفار وأبصارهم فتقلب قلوب الكفار انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا هي ترجع إلى أماكنها ولا هي تخرج، فأما تقلب الأبصار فالزرقة بعد الحكل والعمى بعد البصر.
وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك والإبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم وإلى أي ناحية يؤخذ بهم.
وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة.
ومنها: يوم الشخوص والإقناع.
قال الله تعالى: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} أي لا تغمض فيه من هول ما ترى في ذلك اليوم.
قاله الفراء.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يغتمضون مهطعين أي مديمي النظر.
قال مجاهد والضحاك: مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم وإقناع الرأس رفعه.
قاله ابن عباس ومجاهد، وقال الحسن: وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد..
فإن قيل: فقد قال الله تعالى في غير هذه الآية {خاشعة أبصارهم} وقال: {خشعاً أبصارهم} فكيف يكون الرافع رأسه الناظر نظراً طويلاً حتى إن طرفه لا يرتد إليه خاشع البصر؟.
فالجواب أنهم يخرجون حال المضي إلى الموقف خاشعة أبصارهم، وفي هذه الحال وصفهم الله تعالى بخشوع الأبصار وإذا توافوا وضمهم الموقف وطال القيام عليهم فإنهم يصيرون من الحيرة كأنهم لا قلوب لهم ويرفعون رؤوسهم فينظرون النظر الطويل ولا يرتد إليهم طرفهم كأنهم قد نسوا الغمض أو جلهوه فهو تعسير عليهم.
ومنها: {هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون}
وذلك حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون وتطبق عليهم جهنم على ما يأتي بيانه في أبواب النار.
ومنها: يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم وإن أذن لهم بأن يمكنوا منها لا بأن يقال لهم اعتذروا كقوله: {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} الآية وكقوله: {ربنا أخرجنا منها} الآية.
ومنها: ولا يكتمون الله حديثاً.
ومنها: يوم الفتنة.
قال الله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} أي يعذبون من قولك فتنت الذهب إذا رميت به في النار.
ومنها: يوم لا مرد له من الله يريد يوم القيامة أي لا يرده أحد بعد ما حكم الله به وجعل له أجلاً ووقتاً.
ومنها: يوم الغاشية. وسميت بذلك لأنها تغشى بإفزاعها. أي تعمهم بذلك. ومنه غاشية السرج. ومنها: فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد.
ومنها: يوم لا بيع فيه ولا خلال قال الله تعالى: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} والخلة والخلال الصداقة والمودة.
ومنها: يوم لا ريب فيه، وإن وقع فيه رب الكفار أي شك فليس فيه ريب لقيام الأدلة الظاهرة عليه كما قال الله تعالى: {أفي الله شك} فليس في الباري شك لقيام الأدلة عليه ولشهادة أفعاله ولاقتضاء المحدث أن يكون له محدث، ولكن قد شك فيه قوم ونفاه آخرون، ولم يوجب ذلك شكا فيه لقيام الأدلة عليه، فكذلك يوم القيامة لا ريب ولا شك فيه مع النظر في الدليل والعلم، فإذا خلق الله تعالى الرين على القلب كان الشك.
قال الله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور}
ومنها: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ومنها: يوم الأذان: دخل طاووس على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق الله واحذر يوم الأذان فقال: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} فصعق هشام، فقال طاووس: هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة.
ومنها: يوم الشفاعة قال الله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وقال: {لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} وقال: {فما لنا من شافعين} وسيأتي بيانه.
ومنها: يوم العرق، وسيأتي بيانه في أحاديث في الباب بعد هذا بحول الله وقوته.
ومنها يوم القلق والجولان. وهو عبارة عند عدم الاستقرار والثبوت يقال: قلق الرجل يقلق قلقاً إذا لم يستقر ومثله جال يجول إذا لم يثبت.
ومنها: يوم الفرار.
قال الله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} فيفر كل واحد من صاحبه حذراً من مطالبته إياه، إما لما بينهم من التبعات أو لئلا يروا ما هو فيه من الشدة.
وقال عبد الله بن طاهر الأبهري: يفر منهم لما يتبين له من عجزهم وقلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئاً سوى ربه تعالى.
وقال الحسن: أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم، وأول من يفر من ابنه نوح، وأول من يفر من امرأته لوط.
قال: فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم، وهذا فرار التبري نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة وصحبه الكرام البرزة، وجعلنا ممن حشر في زمرتهم ولا خالف بنا على طريقهم ومذهبهم بمنه وكرمه آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
قال المؤلف: وقد سرد تسمية هذه الأيام على التوالي من غير تفسير غير واحد من العلماء. منهم ابن نجاح في سبل الخيرات، وأبو حامد الغزالي في غير موضع من كتبه كالإحياء وغيره، والقتبي في كتاب عيون الأخبار، وهذا تفسيرها حسب ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين، وربما زدنا عليه في ذلك والحمد لله على ذلك. ولا يمتنع أن تسمى غير ما ذكرنا بحسب الأحوال الكائنة فيه من الازدحام والتضايق واختلاف الأقدام الخزي والهوان والذل والافتقار والصغار والانكسار ويوم الميقات والمرصاد إلى غير ذلك من الأسماء، وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى في الباب بعد هذا. اهـ.